المتحف بين الأرشيف و العمل الفني الشامل – الجزء الأول
بوريس غرويس
نُشر النص الأصلي في محاضرة بعنوان :
Entering the Flow: Museum between Archive and Gesamtkunstwerk
في متحف رينا صوفيا بمدريد ، في 8 تشرين الثاني – نوفمبر 2013


تقليدياً كانت الوظيفة الأساسية للفن هي مقاومة تدفق الزمن . فالمتاحف العامة للفنون و المجموعات الفنية الخاصة إنما وُجدت بهدف اختيار أعمال فنية بعينها و سحبها بعيداً عن دائرة الاستخدام ، و بالنتيجة تحصينها ضد القوة المدمرة للزمن . ما جعل من متاحف الفنون في واقع الحال مزابل ضخمة للتاريخ ، تحفظ و تعرض أشياءاً عفى عليها الاستخدام في الحياة العادية : صور مقدسة من أديان غابرة أو أشياء كان الناس فيما مضي يتفاخرون بامتلاكها ثم ولى عليها الزمن . اشترك الفنانون أيضاً ، ولردح طويل من تاريخ الفن ، في مقاومة قوى الزمن المدمرة . رغب الفنانون في انتاج أعمال فنية قادرة على تجاوز الزمن ، حاولوا تجسيد المثل الأبدية للجمال ، سخّروا أعمالهم الفنية كوسيط للذاكرة التاريخية للشعوب ، ليصبح العمل الفني شاهداً على الأحداث و المآسي و الآمال و المشروعات التي كانت لتذهب أدراج النسيان لولا أن خلّدها الفن . و بهذا المعنى فإن كل من الفنانين و المؤسسات الفنية مشتركون في مشروع لمقاومة التحلل المادي و الإنزواء التاريخي .
تأسست كذلك متاحف الفنون ، في صورتها التقليدية ، على مفهوم شمولية تاريخ الفن . فلجأ مقيمو تلك المتاحف عبر التاريخ لاختيار أعمال بدت كما لو كانت تحمل قيماً عالمية جامعة . إلا أن تلك الممارسات الانتقائية تعرضت للنقد في العقود الأخيرة على خلفية تجاهلها ، و حتى قمعها ، لهويات ثقافية بعينها ، حتى أنه لم يعد من الناحية النظرية القول بوجود هويات مثالية عابرة للخصوصيات التاريخية . بحسب هذه النظرة لا يمكن الحديث عن هويات سوى تلك المتجذرة في الحقائق المادية لوجودنا المباشر : كالهويات الثقافية المناطقية ، أو الهويات المتعلقة بالعرق و الطبقة و الجندر ، و غيرها من التنويعات المحتملة من تلك الهويات الخاصة . فالأوضاع المادية للوجود البشري شديدة التنوع و دائمة التغير بشكل متجاوز للحصر ، ما يجعل مهمة المتحف في مقاومة الزمن و تمثيل الذاكرة الإنسانية على تنوعها تنتهي حتماً بطريق مسدود ، إذ أنه بوجود هذا العدد غير المحدود من الهويات و الذاكرات المحتملة ، لابد و أن ينحل المتحف من تلقاء نفسه لعدم قدرته على الإحاطة بها جميعاً .
إبان عصر التنوير و الثورة الفرنسية نشأ المتحف كذاكرة علمانية بديلة عن ذاكرة الإله ، إلا أنه و على عكس الذاكرة الإلهية غير المحدودة و التي يمكنها الإحاطة بكل الهويات و الشخوص الماضية و الحالية و الآتية ، يظل المتحف مجرد بناء مادي محدود . إذن يبدو عالم المادة بمحدوديته عاجزاً عن انتاج أي نوع من الشمولية ، لكن هل تعبر هذه الرؤية حقاً عن الفكر المادي؟ أقترح الإجابة على هذا السؤال بـ: لا . فالخطاب المادي ، كما طوّره ماركس و نيتشه ، يصف عالماً في حالة من الحركة الدائبة ، عالماً يسبح في تيار متدفق ، سواء أكان هذا التدفق متعلقاً بديناميكيات قوى الإنتاج أو حتى بدوافع حسية غريزية بسيطة . و وفق هذا التراث المادي فإن كل الأشياء محدودة و قابلة للحصر ، إلا أنها أيضاً تسري في خضم تدفق مادي لا محدود . الفلسفة المادية إذن تعرف نوعاً من الشمولية ، هي في واقع الحال شمولية التدفق المادي لهذا العالم .
حتى الأجسام البشرية ، بوصفها أشياء ضمن باقي الأشياء في هذا العالم ، هي أيضاً جزء من هذا التدفق المادي الشامل . فالجسم البشري يمرض و يشيخ و يموت . لكن على الرغم من أنه معرض للتحلل و التلاشي في خضم هذا التدفق ، إلا إن ذلك لا يعني بالضرورة أن ما يخطّه هذا الجسم في أرشيفات الثقافة هو أيضاً معرض بالضرورة للتحلل و التلاشي . فالشخص يولد و يعيش و يموت حاملاً نفس الاسم ، نفس الجنسية ، نفس السيرة الذاتية ، نفس الموقع الإليكتروني ، ما يعني أنه يظل نفس الشخص . أجسامنا إذن ليست الدلائل المادية الوحيدة على وجودنا . فمنذ الميلاد ، نجد أنفسنا مستلحقين ضمن أنساق طبقية و اجتماعية معينة تحدد من نحن ، دون موافقتنا ، و عادة دون حتى معرفتنا بهذا الأمر ، و قد تكون تلك الدلائل المادية على شخوصنا هي أرشيفات الدولة أو السجلات الطبية أو كلمات السر اللازمة للدخول إلى حساباتنا الشخصية على بعض المواقع الإلكترونية ، و غيرها ، و التي أيضاً سيتم تدميرها بالتأكيد في مرحلة ما من هذا التدفق المادي ، إلا أن مقدار الوقت اللازم لحدوث هذا التدمير متجاوز بطبيعة الحال لمقاييس أعمارنا المحدودة . لذا فهناك دائماً ثمة توتر بين الطبيعة المادية الفيزيائية الجسدية لوجودنا ، من حيث كونها مؤقتة و خاضعة للزمن ، و بين ما نخطه من معلومات في أرشيفاتنا الثقافية و التي و إن كانت معرضة كذلك للتلاشي المادي ، إلا أن وجودها المادي أكثر استقراراً و بقاءاً من أجسامنا .
حتى و إن حاولت المتاحف الادعاء بتمثيل شخصية الفنان كما تتجلى في العمل الفني بطرق أكثر حيوية و غنى من الأرشيفات الأخرى التي تبدو أكثر جموداً ، تظل المتاحف التقليدية جزء من تلك الأرشيفات الثقافية . و ككل الأرشيفات الثقافية ، تعمل المتاحف عن طريق ترميم و حفظ محتوياتها من خطر التحلل و التلاشي . إلا أن هذا لا يمكن تعميمه بنفس الدرجة إذا ما نظرنا إلى الأعمال الفنية باعتبارها أشكالاً مرئية متاحة للمشاهدة العامة . فحتى و إن تلاشى الوجود المادي المباشر للعمل الفني ، فإن شكل القطعة الفنية يمكن أن يتم استرجاعه و نسخه إلى وسيط مادي آخر . و يخبرنا تاريخ الفن عن هاتين الممارستين ، تلك المتعلقة بنقل العمل الفني من صورة مادية إلى صورة مادية أخرى ، و الأخرى المتعلقة باسترجاع العمل نفسه و ترميمه . و عليه فإن شكل العمل الفني يظل بعيداً عن تأثير التحلل المادي ، بقدر ما هو مستقر في أرشيفات تاريخ الفن . ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الشكل تحديداً هو ما يظهر روح الفنان \ ـة بعد موته\ـا أو على الأقل روح العصر الذي أنتج فيه ، أو أن هذا الشكل هو ما تتجلى فيه هوية ثقافية معينة بعد أن اختفت من عالم المادة .

العمل الفني الشامل
يمكننا القول إذن أن النظام التقليدي لإنتاج الفن يعتمد على فض التزامن بين الزمن الفردي للوجود المادي البشري و بين الزمن الذي يتم فيه تمثيل هذا الوجود ثقافياً . إلا أن فناني الطليعة الحداثية و بعض من فناني حقبة الستينات و السبعينات حاولوا بالفعل إعادة ذلك التزامن بين مصير الجسم البشري و بين تمثيله تاريخياً . حاولوا الاحتفاء بتهافت وجودنا المادي و محدوديته ، لا أن يوقفوا زحف الزمن ، بل أن يتركوه ليحدد ملامح العمل الفني . كان سعيهم موجهاً للبحث عن سيولة زمنية ذاتية التدفق ، بدلاً من محاولة البحث عن طرق للتحكم في الزمن من خلال التخليد الذاتي ، سواء للعمل الفني أو لشخص الفنان . كانت الفكرة هي إسالة شكل العمل الفني . إلا أن ذلك الاحتفاء الراديكالي بالتهافت و التلاشي أرخى بظلاله على علاقة الفنان بالمؤسسة الفنية بوصفها المؤسسة المنوطة بالتبجيل و التخليد .
العلاقة بين هذين الطرفين مرت بمرحلتين مختلفتين : الأولى هي مرحلة الخصومة من جانب الفنان ضد النظام الفني عموماً ، و ضد المتاحف خصوصاً ، و محاولة تدميرها كلياً باسم الدفاع عن الفن المتجدد . المرحلة الثانية تضمنت التحور البطيء للمتحف و تحوله إلى منصة لعرض تدفق الزمن . لذا فالشكل المؤسسي الذي اقترحته الطليعة الكلاسيكية بديلاً عن المتحف التقليدي كان هو : العمل الفني الشامل gesamtkunstwerk . أي ذلك الحدث الفني الجامع الذي يتضمن كل الأشياء و الأشخاص المشتركين في إنتاجه كبديل عن الفضاء الشمولي للمتحف من حيث كونه تمثيل فني متجاوز للزمن يدّعي تمثيل جميع الأشياء و الأشخاص .
قدم فاغنر Richard Wagner فكرة العمل الفني الشامل gesamtkunstwerk للمرة الأولى ضمن أطروحته “العمل الفني في المستقبل” The Art-Work of the Future . كتب فاغنر هذا النص من منفاه في زيورخ ، بعد الانتفاضة الثورية التي شهدتها ألمانيا في العام 1848 . في هذا النص طوّر فاغنر تصوراً عن العمل الفني في المستقبل حمل في طيّاته تأثراً كبيراً بالفلسفة المادية لـ لودفيغ فويرباخ Ludwig Feuerbach . ففي بداية أطروحته ، يقول فاغنر أن الفنان التقليدي في ذلك العصر كان إنساناً أنانياً محباً لذاته ، يمارس فنه حصرياً بغرض تسلية الأغنياء في عزلة كاملة عن حياة الناس العادية ، ما يجعل فنه تابعاً لإملاءات الموضة . بينما فنان المستقبل ، كما يقول فاغنر ، يجب أن يكون مختلفاً بالكلية ، “إذ لا يسعه سوى أن يكون شاملاً ، صريحاً ، و غير مساوم . يسلّم نفسه لا لحب غرض معين ، و إنما للحب نفسه بمعناه الأشمل ، و هكذا يتحوّل الفنان الأنوي المحب لذاته إلى شيوعي.”
و هكذا فالتحول إلى الشيوعية هو أمر ممكن فقط عن طريق التنكر للذات و تلاشيها في المجموع . لذا يسم فاغنر بطله المفترض على أنه صاحب “التبرؤ الأكمل و النهائي من أنويته ، و فيه يتجلى الارتقاء الكامل إلى مصاف الشمولية . فقط من خلال الموت ، و لا أقصد هنا الموت العارض و إنما الموت كضرورة ، يمكن للفنان أن يستوفي الهدف النهائي من وجوده و أن يستبين تبعات أفعاله . الاحتفاء بهذا الموت هو أنبل شيء يمكن للإنسان أن يحظى به .” من الثابت أنه لا يزال هناك فرق بين البطل الذي يضحي بنفسه في الواقع و بين المؤدي الذي يضحي على خشبة المسرح (العمل الفني الشامل gesamtkunstwerk كما فهمه فاغنر هو في واقع الحال دراما موسيقية) . إلا أن فاغنر يؤكد أن هذا الفرق يتعطل في حالة العمل الفني الشامل gesamtkunstwerk ، إذ أن الفنان في هذه الحالة “لا يقوم فقط بمجرد تمثيل أفعال البطل المضحي بذاته ، لكنه يعيد علينا الدرس الأخلاقي المستمد من هذه التضحية ليثبت أنه بزهده عن ذاته إنما يخضع هو أيضاً ، في أفعاله الفنية ، إلى حكم الضرورة التي تستنفذ فرديته كفنان “ بعبارة أخرى ، فهم فاغنر العمل الفني الشامل كطريقة لإعادة التزامن بين محدودية الوجود الإنساني و بين تمثيل محدودية هذا الوجود في الثقافة .
وفقاً لهذا المفهوم تقتصر أهمية دور الفنانين الآخرين على مشاركتهم في طقوس تضحية البطل بذاته . لذا يتحدث فاغنر عن المؤدي البطل بوصفه دكتاتوراً يقوم بتعبئة و تنظيم جهود المتعاونين معه بشكل جمعي لهدف واحد هو تقديم تضحيته هو باسم الجماعة . يجد العمل الفني الشامل معناه و مبتغاه في هذا المشهد الأضحوي ، فليس هناك ثمة تتمة تالية أو ذاكرة سابقة ، ليس هناك دور تالٍ للمؤدي الدكتاتور ، إذ تنفضّ مجموعة الفنانين بعد الانتهاء من العمل ، أما العمل الفني الشامل التالي فتقوم به مجموعة فنية جديدة بقيادة دكتاتور جديد يؤدي الدور الرئيسي في العمل و هكذا . هنا نجد أن هشاشة الوجود الإنساني و عدم استقرار المجموعات الفنية و سيولتها ، يتم تبنيها بل و تثويرها أيضاً . تاريخياً هناك العديد من الفرق الفنية التي اتبعت هذا النموذج من العمل : مثل “كباريه فولتير” لهوغو بول Hugo Ball و “المصنع” لآندي وورهول Andy Warhol و مجموعة الموقفيين الأمميين Situationist International بزعامة غي ديبور Guy Debord . إلا أننا نطلق اسماً مختلفاً على مثل هذه الدكتاتورية الانتحارية المؤقتة ، ألا و هو “المشروع التقييمي” curatorial project .
بدأ ذلك المنعطف التقييمي في تاريخ الفن المعاصر على يد هرالد تسيمان Harald Szeemann و الذي كان مفتوناً بمفهوم العمل الفني الشامل حتى أنه نظم معرضاً فنياً بعنوان “النزعة نحو العمل الفني الشامل” Hang zum Gesamtkunstwerk في العام 1984 . و هنا من الضروري أن نسأل : ما هو الفرق بين المعرض الفني التقليدي و المشروع التقييمي الحداثي كما في حالة تسيمان ؟ المعرض التقليدي يتعامل مع الفضاء بشكل مجهّل و محايد . الشيء الوحيد المهم في هذا الفضاء هو الأعمال الفنية المعروضة ذاتها . و عليه فإن هذه الأعمال يتم التعامل معها بوصفها خالدة في حين يتم التعامل مع فضاء العرض بوصفه محطة استراحة عارضة و مؤقتة في مسيرة العمل الفني الخالد في عالم المادة . في المقابل يبدو العمل التجميعي ، سواء أكان تركيباً فنياً أو مشروعاً تقييمياً ، و كأنه يضع الأعمال الفنية ضمن الفضاء المادي العارض .
المشروع التقييمي ، على خلاف المعرض ، هو إذن عمل فني شامل لأنه يستعمل الأعمال الفنية المعروضة لخدمة غرض مشترك تم صكه بواسطة المقيم . و في الوقت ذاته فإن المشروع التقييمي أو التركيب الفني قادر على اشتمال كافة العناصر : الأعمال أو العمليات الفنية المرتبطة بزمن ما و أغراض الحياة اليومية و المستندات و النصوص إلى آخره . تفقد هذه العناصر ، بالإضافة لعمارة فضاء العرض أو الصوت أو الضوء ، استقلاليتها لتصب في صياغة كلية ينضوي تحتها الزوار و المشاهدون كذلك . و عليه تكتسب الأعمال الفنية التقليدية الساكنة بعداً زمنياً ، و تخضع لسيناريو يتغير فيه فهم العمل الفني خلال العرض ، و يصبح فهم العمل مترتباً على سياق العرض الذي يبدأ بدوره في التدفق و الانحلال بمجرد بدء العمل . و بهذا تتجلى الطبيعة المؤقتة و المحدودة للعمل الفني ، و يصبح المشروع التقييمي في واقع الحال هو إعادة تمثيل لتهافت و هشاشة وجوده هو ذاته .
واقع الحال أن كل مشروع تقييمي يسعى بالضرورة إلى مناقضة الخطاب التقليدي لتاريخ الفن كما تجسده المجموعة الدائمة في المتحف ، فإذا ما غاب هذا التناقض فقد المشروع التقييمي شرعيته . و لهذا السبب نفسه يمكن لمشروع تقييمي أن يناقض مشروعاً تقييمياً آخر ، فالمقيم الجديد هو دكتاتور جديد يمحو آثار الدكتاتور السابق . و بهذه الطريقة يمكن للمتاحف المعاصرة أن تحوّر فضاءات عرض المجموعات الفنية الدائمة باستمرار إلى منصات لاستضافة مشاريع تقييمية مؤقتة . الهدف الرئيسي لهذه الدكتاتوريات الفنية المؤقتة هو جعل المجموعة الفنية الدائمة جزءاً من التدفق المادي المستمر لهذا العالم ، جعل الفن سائلاً قابلاً للإنحلال ، و إعادة تزامن الفن مع تدفق الزمن .

المتحف و الإنترنت
كما ذكرت سابقاً ، في بداية عملية التزامن تلك رغب الفنانون في الإطاحة بالمتحف . يقدم لنا [كازيمير] ماليفيتش Kazimir Malevich مثالاً جيداً على ذلك في نص قصير لكن مهم بعنوان “عن المتحف” On the Museum صدر في العام 1919 . في ذلك الوقت كانت الحكومة السوفييتية الناشئة تخشى من أن تأتي الحرب الأهلية و انهيار الاقتصاد و المؤسسات الحكومية على المتاحف و المجموعات الفنية الروسية ، ما حدا بالحزب الشيوعي إلى محاولة تأمين و إنقاذ تلك المجموعات . في هذا النص اعترض ماليفيتش على هذه السياسة المحابية للمتاحف داعياً الحكومة السوفييتية ألا تتدخل للذود عن المجموعات الفنية القديمة لأن تدمير تلك الأعمال ، بحسب زعمه ، قد يفتح الطريق أمام فن حقيقي متجدد . يقول ماليفيتش :
“الحياة تدرك ما تفعله ، و إذا كانت الحياة بصدد تدمير شيء ما ، فعلى المرء ألا يتدخل . إذ أنه بمقاومتنا لهذا التدمير نغلق الطريق نحو مفهوم جديد للحياة يولد بداخلنا . عندما نحرق جثة نحصل في مقابلها على غرام واحد من الرماد ، و بالتبعية فإن رفاً كيميائياً واحداً يمكنه أن يتسع لآلاف المقابر . يمكننا أن نتنازل لصالح الرجعيين بإعطائهم صيدلية واحدة يأوون فيها رماد كل الحقب السابقة “
لاحقاً يعطي ماليفيتش مثالاً واضحاً فيقول :
“الهدف [من هذه الصيدلية] سيظل كما هو ، حتى لو سيختبر الناس ذلك الرماد المتخلف عن روبنز و كل أعماله الفنية ، سوف يتشكل في عقول الناس كتلة من الأفكار ، و سوف تكون هذه الأفكار أكثر حيوية و تجدداً من ذلك الرماد ، و بالتأكيد سوف تشغل هذه الأفكار حيزاً أقل”
يبدو جلياً هنا أن ما يعنيه ليس ببساطة تدمير المتاحف ، و إنما يقصد ماليفيتش مشروعاً تقييمياً يهدف لعرض رماد الأعمال الفنية بدلاً من الأعمال الفنية ذاتها . و بطريقة فاغنرية يقول ماليفيتش أن كل شيء نفعله (يقصد نفسه و معاصريه من الفنانين) مصيره كذلك إلى المحرقة . بالتأكيد لا يقوم مقيمو اليوم بحرق الأعمال الفنية و تحويلها إلى رماد كما اقترح ماليفيتش ، و هناك سبب جيد لذلك ، فمنذ زمن ماليفيتش ابتكرت البشرية طريقة لوضع الأعمال الفنية التاريخية على رف الكيميائي دون تدميرها ، هذا الرف يسمى “الإنترنت” .
أسهم الإنترنت في تحويل المتحف بنفس الطريقة التي أسهمت بها الفوتوغرافيا و السينما في تحويل الرسم و النحت . ألغت الفوتوغرافيا وظيفة الرسم التقليدي كمحاكاة الطبيعة ، و بالتبعية دفعت بالرسم في اتجاهات مختلفة عن – في واقع الحال معاكسة لـ – المحاكاة . عوضاً عن إعادة انتاج و تمثيل صورة الطبيعة ، أصبح دور الفن متعلقاً بتفكيك تلك الصورة . و بهذا تحول الاهتمام بالصورة نفسها إلى اهتمام بتحليل كيفية إنتاجها و تمثيلها . بشكل مشابه ألغى الإنترنت وظيفة المتحف كإعادة تمثيل لتاريخ الفن . الطبع يفتقد المشاهدون على الإنترنت أي اتصال مباشر مع الأعمال الفنية الأصلية ، و بهذا تضيع هالة الأصالة التي تميز معروضات المتحف . و عليه أصبح زوار المتاحف مدعوين للحج إلى متاحف الفنون بحثاً عن أيقونات الأصالة و الموثوقية .
في هذه النقطة تحديداً ينبغي على المرء أن يتذكر فالتر بنيامين Walter Benjamin و الذي قدم للمرة الأولى مفهوم “الهالة” Aura . بحسب بنيامين فالأعمال الفنية خسرت الهالة التي تحظى بها تحديداً بسبب متحفتها . المتحف يزيل الأعمال الفنية من مواقع انتاجها الأصلية من حيث المكان و الزمان التاريخيين . و عليه ، بالإشارة إلى بنيامين ، فالأعمال الفنية المعروضة في المتاحف هي في واقع الأمر نسخ عن نفسها ، تنقصها الهالة التي تميز العمل الأصلي . و بالتالي فإن الإنترنت ، بمواقعه الإلكترونية المتخصصة في الفنون ، يستكمل المهمة التي بدأها المتحف بإزالة هالة الأصالة عن الأعمال الفنية المعروضة فيه . ما دفع – و لازال يدفع – عدد من النقاد إلى القول بحتمية اختفاء المتاحف في المستقبل بالنظر إلى عدم قدرتها على المنافسة الاقتصادية مع أصحاب المجموعات الفنية الخاصة في سوق متعاظم للفنون ، و من حيث إمكانية استبدالها بأرشيفات رقمية أقل تكلفة و أكثر إتاحة .
إلا أن العلاقة بين الإنترنت و المتحف تتغير بشكل جذري إذا ما نظرنا للإنترنت لا كمخزن للأعمال الفنية ، و إنما كمنصة لتدفق الأحداث الفنية . واقع الحال إن المتحف اليوم لم يعد مكاناً للتمعن في الأشياء الساكنة ، بل هو مكان لحدوث الأشياء . الأحداث التي تستضيفها متاحف اليوم لا تقتصر فقط على المشاريع التقييمية و إنما تشمل كذلك المحاضرات و المؤتمرات و جلسات القراءة و عروض السينما و الحفلات و الجولات التعريفية إلى آخره . تتدفق الأحداث داخل متاحف اليوم عادة أسرع مما هو خارجها . و عادة ما نجد أنفسنا نتساءل عم يجري الآن بهذا المتحف أو ذاك ، و عادةً ما نلجأ ليس فقط للمواقع الإلكترونية الخاصة بتلك المتاحف ، بل للمدونات و مواقع التواصل الاجتماعي بحثاً عن الإجابة الشافية ، واقع الحال إننا نتردد على المواقع الإلكترونية للمتاحف بأكثر مما نزور المتاحف نفسها . و على الإنترنت يبدو الموقع الإلكتروني للمتحف كما لو كان مدونة شخصية ، لا تخبرنا عن تاريخ الفن في المجمل ، و إنما فقط تخبرنا عن تاريخ المتحف في صورة سلسلة من الأحداث التي استضافها المتحف في السابق . و أهم من كل ذلك يبدو الإنترنت في علاقته مع المتحف أقرب لمساحة للتوثيق منه لمساحة لإعادة الإنتاج . بالتأكيد يمكن أن تتم إعادة المجموعة الفنية الدائمة للمتحف على الإنترنت في صور مختلفة ، إلا أن أنشطة المتحف لا يمكن إعادة إنتاجها على الإنترنت بذات الطريقة ، بل يتم فقط توثيقها .

يتبع ،،،

Leave a comment